- د. جهاد بن جميل حمد، الأستاذ المشارك في قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي.
تشهد المجتمعات العربية أزمة وجودية متعددّة الأبعاد تتجلّى في تراجع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي غير مسبوق. هذه الأزمة ليست طارئة أو عابرة، بل هي بنيويّة متجذّرة، ناتجة عن تفاعل معقد لعوامل داخليّة وخارجيّة تُعزّز بعضها بعضًا في حلقة مفرغة من التخلف والتبعية.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم تشخيص سوسيولوجي لهذه الأزمة، مستندة إلى إطار نظري يجمع بين نظريات التبعية وما بعد الاستعمار والنخب، سعيًا إلى فكِّ شيفرة استمراريتها وتعقيدها. وفي محاولة لكسر حتميّة التشاؤم، تتطلّع المقالة إلى النموذج العُماني بوصفه حالة استثنائية توفّر إطارًا عمليًّا لفهم كيفية تحييد بعض هذه العوامل وبناء مشروع نهضوي مستقل، مما يفتح آفاقاً لاستخلاص الدروس والعِبر.
1. تشخيص الأزمة: تشابك العوامل الداخلية والخارجية
تكشف البيانات الكمية عن مظاهر مروّعة لهذه الأزمة؛ فاقتصادياً يُعاني العالم العربي من ركود مُزمن، حيث بلغ متوسط النموّ السنوي للناتج المحلي الإجمالي 1.5% فقط في عام 2024، بينما قفز معدل بطالة الشباب إلى 24.4%، أي ما يُقارب ضعف المتوسط العالمي (ILO, 2024؛ البنك الدولي، 2024). أما اجتماعياً، فلا يزال 65 مليون بالغ أميًّا، ويُحرم 10 ملايين طفل من التعليم الأساسي. وعلى الرغم من التحسّن في متوسط العمر المتوقع، فإنّ مؤشرات التنمية البشرية تُشير إلى تدهورٍ مقلقٍ في جودة الحياة.
أما معرفيًّا، فإنّ المؤشرات أكثر إثارة للقلق، إذ لا يتجاوز إنفاق الدول العربية على البحث والتطوير 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي (حال دولة الإمارات الأعلى عام 2018)، وهو أقل من سبع المتوسط العالمي. وتُسهم الدول العربية مجتمعة بنسبة 2.72% فقط من المنشورات الطبية العالمية (PMC, 2024)، ما يعكس فجوة معرفية هائلة وتبعية تكنولوجية تكبّل أي أمل في التقدّم المستقل.
هذه المظاهر ليست منفصلة، بل هي أعراض لمرض منهجي أعمق. فشلت النخب الحاكمة في معظم البلدان العربية - أو بالأحرى "النخب غير الوطنية" كما يصفها هشام شرابي - في قيادة مشروع تنموي حقيقي. هذه النخب، المكونة من تحالف ثلاثي فاسد (السّلطة، رأس المال التابع، ورجل الدين المؤدلج)، تخدم في جوهرها مصالح خارجية وتعمل كوكلاء للاستعمار الجديد. فهي تنفذ أجندات القوى العظمى والشركات العابرة للقوميات، وتبرر تبعيتها بشعارات وطنية أو دينية زائفة.
يقودنا هذا إلى العامل الخارجي المتمثل في "رأسمالية الكوارث"، وهي آلية يتم من خلالها تحويل الأزمات الاقتصادية في دول المركز (مثل أزمة 2008) إلى حروب مدمرة في الأطراف (العالم العربي)، لخلق أسواق جديدة مُربحة لإعادة الإعمار، تستفيد منها الشركات متعددة الجنسيات بالتواطؤ مع النخب المحلية (كارنيغي، 2025).
لتعزيز سيطرتها، تعمل هذه النخب على إجهاض أيّ مشروع تنويري، فمن ناحية، يُهمّش العلم والعقلانية عبر خنق الحريات الأكاديمية وتجويد التعليم وهجرة العقول، ومن ناحية أخرى، يُضخّم الخطاب الظلامي والخرافي عبر "إعلام تافه" يُمجّد السّلطة وينشر الجهل، مما يخلق بيئة خصبة للتطرف ويحول دون ظهور وعي نقدي جماعي.
النتيجة هي هندسة متعمدة للتفتيت المجتمعي، فالتنوع الطبيعي في المنطقة (المذهبي، الإثني، الجغرافي) لا يُحتفى به كمصدر للإثراء، بل يتم استغلاله وتحويله إلى خطوط صدع دموية. تُؤجّج الصراعات الطائفية والعرقية من قبل الأنظمة الاستبدادية كـ "تكتيكات مضادة للثورة" لتقسيم الشعوب، وإبقاء الأنظمة القديمة في السّلطة (المجلس الأطلسي، 2023). ويصبح الشباب، في ظل غياب الفرص واليأس، وقودًا سهلًا لهذه الصراعات، إما عبر التجنيد في الخطابات المتطرفة أو الهجرة غير النظامية.
2. النموذج العُماني: استثناء في جغرافيا الأزمة
في خضم هذه الصورة القاتمة، تبرز سلطنة عُمان كنموذج استثنائي يستحق الدراسة والتحليل. فعلى عكس جيرانها، تجنبت عُمان برمتها الوقوع في براثن الصراعات الطائفية والإقليمية التي مزقت المنطقة. لم يكن هذا النجاح محضَ الصدفة، بل كان نتاج إرادة سياسية واضحة واختيارات استراتيجية ذكية تقوم على ركائز سوسيولوجية عدة:
· السيادة في صنع القرار ورفض التبعية: اِلتزمت عُمان بسياسة خارجية مُستقلة قائمة على الحياد الإيجابي وعدم الانحياز وعدم التدخل في شؤون الآخرين. هذا الموقف حمى البلاد من أن تكون ساحة لتصفية حسابات القوى الإقليمية والدولية، أو أن تتحول إلى سوق لـ "رأسمالية الكوارث"، وآمنت القيادة العُمانية بأنّ السيادة الوطنية هي الشرط الأساسي لأي تنمية حقيقية.
· المواطنة الشاملة كبديل للتفتيت: عمل النموذج العُماني على بناء هوية وطنية موحدة تتسع للجميع، متجاوزًا الانقسامات المذهبية والمناطقية. لم يتم إنكار التنوع، بل تمت إدارته بحكمة ضمن إطار المواطنة المتساوية التي تكفل الحقوق والواجبات للجميع، مما حال دون تحول الاختلافات إلى هويات متصارعة وقطع الطريق على أي محاولة لـ "هندسة التفتيت" داخليًّا أو خارجيًّا.
· نخبة وطنية تخدم المشروع الداخلي: على عكس "النخب غير الوطنية" في أماكن أخرى، حافظت عُمان على نخبة حاكمة تضع الاستقرار الداخلي والتنمية الوطنية كأولوية قصوى. رغم التحديات، لم ُتصبح هذه النخب وكيلة لمصالح خارجية أو أدوات لتصدير الأزمات، وقد فهمت أنّ شرعيتها مستمدة من خدمة شعبها وليس من رضا قوى خارجية.
· التوازن بين الأصالة والحداثة: سعت عُمان لتبني نهج متوازن، فحافظت على هويتها العربية الإسلامية الأصيلة دون انغلاق، وانفتحت على الحداثة والعلم دون قطيعة مع التراث. هذا المنهج تجنّب الانزلاق إلى فخَّي الظلامية والتقليد من ناحية، أو التغريب والتبعية الثقافية من ناحية أخرى.
هذه الركائز لم تجعل من عُمان جنةً خاليةً من المشاكل، ولكنها حققت لها أهم مكسب في زمن الأزمات كالاستقرار حيث أثبت النموذج العُماني أنّ السيادة ورفض التبعية وبناء المواطنة ليست شعارات، بل هي خيارات استراتيجية مُمكنة تحمي البلدان من العواصف الإقليمية، وتُوفر الأساس لأي عملية تنمية مستدامة.
3. موقف عُمان من القضية الفلسطينية: السيادة والأخلاق
يُمثل موقف سلطنة عُمان من القضية الفلسطينية، وخاصة ما يحدث في قطاع غزة، تجسيدًا عمليًّا لسياسة السيادة والموقف الأخلاقي الثابت. ففي الوقت الذي تورّطت فيه بعض الأنظمة العربية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل دون ضمانات حقيقية لحقوق الشعب الفلسطيني، ظلت عُمان متمسّكة بموقفها المبدئي الداعم للقضية الفلسطينية، ولم تتنازل عن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، مُعتبرة أنّ السلام الحقيقي لا يتحقّق إلا بإنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة. هذا الموقف لم يكن انعزاليًّا، بل كان جزءًا من رؤية استراتيجية ترفض توظيف القضية الفلسطينية كورقة في صراعات إقليمية، وتؤمن بأنّ الأمن والاستقرار في المنطقة مُرتبطان ارتباطًا وثيقًا بحلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية. لقد قدمت عُمان نموذجًا للدبلوماسية الإنسانية الأصيلة التي ترفض الانسياق وراء التحالفات الآنية، وتضع القيم والمبادئ فوق المصالح الضيقة.
4. استخلاص العبر نحو مشروع نهضوي عربي
يُقدم لنا النموذج العُماني، إلى جانب التشخيص السوسيولوجي للأزمة، خارطة طريق عملية للخروج من المأزق العربي الراهن، فالحلول المستوردة أو الجزئية أثبتت فشلها الذريع. النهضة تتطلب مشروعًا جذريًّا شاملًا ينبثق من الداخل ويُعالج الجذور وليس الأعراض، ويمكن استخلاص التوصيات التالية:
- استعادة السيادة والإرادة: يجب على الدول العربية بناء توازنات إقليمية ودولية تُعزّز قدرتها على اتخاذ القرار المستقل، ورفض أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، ويُثبت النموذج العُماني أنّ الحياد الفاعل والسيادة هما أقوى أدوات الحماية.
- تفكيك تحالف النخب الفاسدة وبناء بدائل وطنية: لا بدّ من محاسبة النخب المتواطئة مع المشروعات الخارجية، والعمل على بناء نخب جديدة قائمة على الكفاءة والنزاهة والالتزام بالمصلحة العامة عبر آليات ديمقراطية حقيقية.
- إحياء المشروع العلمي والتنويري: يجب إطلاق ثورة تعليمية شاملة تُركز على التفكير النقدي والعلوم الحديثة، واستعادة استقلالية الجامعات ومراكز البحث، ومكافحة ثقافة الظلامية والخطاب الإعلامي المضلل.
- بناء دولة المواطنة الشاملة: يجب تجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية عبر بناء هوية وطنية جامعة تكفل المساواة الكاملة لجميع المواطنين، وتُجرم خطاب الكراهية والتحريض.
- رفض منطق "رأسمالية الكوارث": يتعين رفض مشروعات "إعادة الإعمار" المشبوهة التي تخدم مصالح الخارج، والعوض عنها بمشروعات تنموية حقيقية مُستدامة تخدم الشعوب وتقوم على الشفافية ومحاربة الفساد.
خاتمة
الأزمة العربية أزمة بنيوية معقّدة، جذورها في تشابك مصالح النخب الفاسدة الداخلية مع آليات الهيمنة الخارجية، مما أدّى إلى إفشال أي مشروع للتنمية المستقلة والتنوير، إلّا أنّ حالة الاستثناء والنجاح النسبي التي تُمثلها سلطنة عُمان تثبت أنّ الخروج من هذا النفق المظلم ليس مستحيلًا. لقد قدّم النموذج العُماني دليلًا عمليًّا على أنّ السيادة، ورفض التبعية، وبناء المواطنة، وتشكيل نخبة وطنية هي خيارات ممكنة وتاريخيًّأ حاسمة. إنّ النهضة العربية المنشودة لن تتحقق باستيراد حلول جاهزة، بل ستولد من رحم إرادة داخلية جادّة تستلهم الدروس من إخفاقاتها وتستضيء بنماذج النجاح؛ لبناء مستقبل يكفل الحرية والكرامة والازدهار لشعوبها.
المراجع
- البنك الدولي. (2024). بيانات العالم العربي.
- Global Employment Trends for Youth 2024: Middle East and North Africa. International Labour Organization (ILO).
- Mapping the landscape of medical research in the Arab world countries: A comprehensive bibliometric analysis. PMC (2024).
- Destruction, Disempowerment, and Dispossession: Disaster Capitalism and the Postwar Plans for Gaza. Carnegie Endowment for International Peace (2025).
- In a sectarian Syria, the winners should refrain from taking all. Atlantic Council (2023).
- شُرّابي، هشام. (1992). النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي.
- جرجس، فواز. (2024). الخيانة الكبرى: النضال من أجل الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط (مراجعة كتاب).